الجمعة، 22 أبريل 2011

* فلسفة التربية ..

المفهوم والأهمية :


الفلسفة التربوية ـ شأنها شأن الفلسفة العامة ـ نظرية ، وإرشادية ، وتحليلية . فهى نظرية : عندما تسعى إلى إنشاء نظريـات عـن طبيعـة الإنسـان ( المتعلم ) والمجتمع ، والعالم المحيط بنا كى تفسَّر أو تؤول بواسطتها المعطيات المتعارضة أو المتضاربة للبحث التربوى والعلوم التربوية . وهى إرشادية : عندما تعين الغايات التى ينبغى على التربية الوصول إليها ، والوسائل التى تتوسل بها لبلوغ هذه الغايات . وهى تحليلية : عندما توضح القرارات أو المقولات النظرية والمبادئ والأسس الإرشادية ، فالتحليل يقود إلى امتحان عقلانية أفكارنا التربوية وتوافقها مع الأفكار الأخرى .

وثمة تساؤل يطرح نفسه هنا ؛ من أين تبدأ فلسفة التربية ؟

فهناك من يرى أن تكون البداية بمناقشة وتحليـل المشكلات والخبرات التربوية ، بينما يذهب بعض آخر إلى ضرورة أن نلجأ إلى المسائل والمشكلات الفلسفية ثم نبحث عن دلالاتها وتطبيقاتها التربوية .

والطريق الأول ـ طريق المشكلات والخبرات التربوية ـ هو الأكثر واقعية كما يرى « سعيد إسماعيل ( 1995 ) » ، حيث الاعتماد فيه على فلسفة التربية كقوة تغيير مجتمعى لا مجرد رياضة عقلية فى المسائل التربوية .

ففلسفة التربية إذاً ، تبدأ ـ أو ينبغى أن تبدأ ـ من واقع المسألة التربوية ، حيث هذا المسلك يعنينا على فهم وتحليل المسألة التربوية بإشكالياتها الراهنة ، والتوسل بهذا الفهم فى استشراف المستقبل ، فلسفة التربية ـ فى نظرنا ، واتَّساقاً مع الرؤية السابقة ـ تتجاوز مرحلة التأمل والتفلسف التربوى النظرى لتكون عملية « مستقبلية » ، حيث تسعى إلى رسم صورة لما ينبغى أن يكون فى الشأن التربوى برمته .

ولذلك ، فحين نروم النظر إلى التربية فى كليتها كوجود فاعل فلابد أن نستعين بفلسفة التربية ، وحين ننظر فى الافتراضات الأساسية التى تقوم عليها التربية ونحللّها ، فلابد أن نتوسل بفلسفة التربية وليس معنى ذلك أن فلسفة التربية هى الضمانة الحقيقية المركزية لصيرورة الشأن التربوى كما ينبغى أو خلاصه ، فإذا كانت فلسفة التربيـة تحدد المنطلقات الفكرية للعمل التربوى بمختلف مراحله وصوره ، فإن العمل التربوى يمثل منظومة فرعية Subsystem ضمن منظومة مجتمعية كلية Super system تشمل كذلك على منظومات فرعية أخرى سياسية واقتصادية وثقافية ... إلخ .

هذا يعنى ، أن المنظومة التربوية لا تعمل وحدها ، إذ لابد أن تعمل فى تناغم وتكامل واتساق مع سائر المنظومات المجتمعية الأخرى مما يستوجب حتمية الارتكاز إلى منطلقات مجتمعية عامة مستمدة مما نسميه الفلسفة العامة للمجتمع التى تعبر عن الأهداف الكلية للمجتمع ونهجه العام وتطلعاته المستقبلية .

وعليه ، فإن غياب هذه الفلسفة الاجتماعية العامة أو ضعفها أو ضبابيتها يمثل واحدة من أهم الإشكاليات التى تعوق صياغة وبناء فلسفة تربوية لأى مجتمع .

وفلسفة التربية التى يدور حولها موضوع هذه الورقة تعنى : تلك المحاولة الجادة للوعى بالمحركات الأساسية للعمل التربوى سواء من داخله ، أو من داخل البنية المجتمعية فى إطار من التحليل والنقد القائمين على استخدام الأدلة العقلية والبراهين المنطقية ، والالتزام الدائم بمحكية الخبرة التربوية على أرض الواقع .

ومن ثم فإن ميدان فلسفة التربية يتسع ليشمل مختلف أبعاد وجوانب المنظومة التربوية ، ففضلاً عن مسعاها لمناقشة وتحليل ونقد جملة المفاهيم الأساسية التى يتمحور حولها العمل التربوى ( طبيعة المتعلم ـ الخبرة التربوية ـ المعرفة ـ الثقافة ـ تكافؤ الفرص ... إلخ ) فإنها تسعى إلى مناقشة الافتراضات الأساسية التى تقوم عليها نظريات التربية من حيث ( التعليم ـ طرائق التعليم ـ بناء المنهج ـ أداة التعليم ـ التقويم ... إلخ ) .

ولذلك ، فمن غير المتصور ، أن نخطط مواقف ، أو نبنى استراتيجيات أو نرسم سياسات ينبغى اتخاذها على الصعيد التربوى لمواجهة تحديات « العولمة » قبل البدء أولاً بمراجعة فلسفة التربية التى تُحدد هذه المواقف ، وترسم هذه السياسات ، وتصاغ تلك الاستراتيجيات فى ضوئها وعلى هديها وانطلاقاً منها .

ومن ثم ، تبدو أهمية الاستناد إلى فلسفة تربوية ـ كإطار مرجعى عام ـ ونحن نحدد موقفنا من العولمة وتجلياتها وتداعياتها . إذ بدون هذه الفلسفة الحاكمة والموجهة ، فسوف تفتقر المواقف المتخذة من العولمة إلى شمولية النظر ، ووحدة الرؤية ، وعقلانية الاستجابة .

كما تبدو أهمية فلسفة التربية لتأسيس الموقف التربوى من العولمة فى ضوء موقف أشمل وأعم على الصعيد الحضارى والثقافى العام الذى تحكمه الفلسفة العامة للمجتمع ، وحتى يكون الموقف التربوى متجانساً ومتكاملاً مع الموقف الثقافى والحضارى العام للمجتمع من العولمة .

# : مبررات البحث عن فلسفة تربوية فى هذه المرحلة :


إذا كانت مبررات البحث عن ، وصياغة فلسفة تربوية واضحة المعالم مهمة ولا خلاف بشأنها لأى نظام تربوى ، فإنها اليوم ـ وفى ظل هذه الواقع العولمى ـ تبدو أكثر أهمية لجملة من المبررات أهمها :

1:  إن الإنسانيات Humanities والعلوم الاجتماعية Social Sciences التى تستمد منها التربية بنيتها المعرفية والمعلوماتية ، علوم منفصلة يبحث كل منها عن استقلاله لأنه يعنى بميدان محدد من الخبرة ، ويعوز هذه العلوم إطار كلى تكاملى يجمعها وأسس عامة لتربية متكاملة وهذه التكاملية المعرفية والعلمية ، وتلك التربية المتكاملة المستمدة منها لا يتحققان دون فلسفة تربوية .
2 : إن علوم التربية المتنامية والمشتتة فى آن معاً ـ مناهج ، نظريات تعلم ، اجتماعيات تربية ، إدارة تخطيط ـ طرائق تعليم ـ يعوزها بناء « ابستمولوجيا » قوامه البحث عن مناهج هذه العلوم حتى تضطلع بدورها فى تكوين نظرية فى التربية يمكن التوسل بها فى التعامل مع قضايا الواقع التربوى ، واتجاهات التربية المرتقية مستقبلاً ، هذه البنية الابستمولوجية ، وهذا الدور المنهجى يتحققان من خلال فلسفة التربية .
3: إن التساؤل الأساسى لعملية التربية برمتها وهو : « ماذا يعنـى أن نربى ؟ » ، سؤال يضم العديد من الأسئلة الفرعية حول موقع المشروع التربوى فى أى مجتمع ، والعلاقة بين المعلم والمتعلم ، وموقع المؤسسة التربوية من سائـر مؤسسات المجتمع ، ومواصفات الإنسان المرجو من العمل التربوى ... إلخ ، هذا السؤال الأساسى ، والأسئلة الفرعية المنبثقة عنه ، يصعب الوصول إلى إجابات شافية لها دون الاستناد إلى فلسفة تربوية تتشكل فى ضوئها الإجابات وتحدد على هديها المسارات .
4 : وعلاوة على الدور الإبستمولوجى الذى تقدمه فلسفة التربية وتضطلع به نحو العلوم التربوية جميعها ، فإنها تضطلع بأدوار عملية وإجرائية لا تقل أهمية ، فهى توفر لكافة المشتغليـن بالعمل التربـوى ـ مختصين authoriseds ومتخصصيـن specialists ( باحثيـن ، مخططين ، مديرين ، موجهين ، معلمين ) ـ القواعد العامة والمفاهيم الأساسية والروابط البنيوية والمنهجية لأجزاء الظاهرة التربوية . ومن ثم ، فإن فلسفة التربية توفر مرجعية كلية موجهة لكافة المعنيين بالخبرة التربوية فى مختلف صورها ومواقعها وأزمنتها .
5 : وإذا كان من أهم سمات هذا العصر ، أنه عصر الثورة المعلوماتية والتدفق اللامحدود للمعلومات ، فإن هذا التدفق ، وما يتبعه من تغير فى بنية المعرفة ومعطياتها ، يستوجب بين الحين والحين وقفة للمراجعة والفحص والنقد لما سبق التسليم به ، ولما مورس من نشاط وفق ما سبق التسليم به ، فهذا التدفق المعلوماتى يصيب التربية أكثر من غيرها ـ فى محتواها وفى طرائقها ، وفى تفاعلاتها ـ ومن ثم تبدو أهمية فلسفة التربية لمراجعة وفحص ونقد ما يجرى فـى مؤسساتنـا التعليميـة ، ... بل إعادة النظر فيما تحمله أدمغتنا من مقولات وما يقدم لطلابنا من معارف ومعلومات ، وكيف تقدم ؟!
6 : لما كان « التغير » المتسارع فى شتى ميادين الحياة هو خاصية أصيلة من خصائص هذا العصر ، فإن هذا التغير يستوجب مرونة وديناميكية فى بنية النظام التربوى ووظائفه حتى يستجيب لمتطلبات تغير العصر . والتوترات والهواجس التى قد يجلبها التغير ـ ولا سيما على مستوى القيم والضوابط الأخلاقية ـ لا يمكن الاستجابة له والتفاعل معه بغير مظلة قيمية توفرها فلسفة التربية .
7 : طرح العصر العولمى مفاهيم جديدة مثل : ( الحوار الحضارى ، وصدام الحضارات ) ، وأعاد طرح مفاهيم أخرى بتأويلات جديدة مثل : ( حقوق الإنسان ، والسلام العالمى ، والتحديات البيئية ) ، مما يستدعى معالجات جديدة على الصعيد التربوى سياسات وبرامج وإجراءات ، وهو ما لا يتحقق بدون فلسفة للتربية تستهدى بها هذه السياسات وتلك البرامج والإجراءات .
8 : ضغطت العولمة فى اتجاه إعادة هيكلة التعليم ، واستخدام طرائق وتقنيات ومسارات جديدة ، كما طرحت تساؤلات حول الدور المرتقب للمعلم ، وعلاقة الدولة بالتعليم ... إلخ . وهذا وغيره لا يمكن أن يأخذ طريقه الصحيح فى أرض الواقع دون فلسفة تربوية تحدد الأولويات وتحسم الجدل فى ضوء إجابتها عن التساؤلات الكبرى حول التربية وغاياتها .
9 : وأخيراً ، فإن أىّ تجديد فى المناهج ، أو الطرائق والأساليب ، أو التنظيمات الهيكلية أو الأدوات الوظيفية ... لابد أن يتم فى إطار منظومة تجديد شاملة ومتكاملة حتى يؤتى التجديد أكله . هذه المنظومة التجديدية لا تتحقق ، بل لا يمكن بلورتها واعتمادها بدون فلسفة تربوية مجددة تحدد معالم الطريق لعملية التجديد التربوى الشامل .

#  فلسفة التربية وتشوّف المستقبل :


لما كان مسعانا فى هذه الورقة تجديد فلسفة التربية العربية لمواجهة تحديات العولمة انطلاقاً من تبنى مفهوم فلسفة التربية القائمة على ( الوجود ) ، فهذا التبنى مرجعه أساساً إلى انتهاج النظرة المستقبلية التى نروم بها تخليص التربية العربية من حالة عجزها أمام تحديات العولمة .

ففلسفة التربية القائمة على ( الوجود ) تمضى مـن الوجـود إلـى ( الماهية ) بمعنى أنها تنطلق أساساً من تحليل الواقع ودراسته والكشف عن معناه ودلالاته ، وتستخلص اتجاهاتها المستقبلية ، وتسعى لتشوف مستقبلها من هذا التحليل نفسه .

فهل يمكن للتربية العربية فى هذه المرحلة وهى تجابـه تحديات العولمة أن تتشوف مستقبلها ، ومستقبل المجتمع العربى من خلالها وهى تستند إلى فلسفة تربوية ـ أو مبـادئ عامة ـ تعود إلى منتصف السبعينيات ؟!

فلعل ذلك يعيد وضع فلسفة التربية مرة أخرى فى دائرة الضوء حين نكون معنيين بالتغيير والتجديد فى التربية العربية لتجاوز الواقع التربوى المأزوم . ومن ثم إعادة طرح السؤال المحورى مرة أخرى : هل نحن فى حاجة إلى فلسفة التربية فى هذه المرحلة المفصلية فى مسيرة نظمنا التعليمية العربية ؟

والإجابة ، أننا حقاً فى حاجة إلى فلسفة تربوية جديدة تقود التغيير التربوى الشامل انطلاقاً من معرفة الواقع العربى وفحصه وتحليله ونقده ، ثم الانطلاق بعد ذلك ، وفى ضوئه لرسم غايات وأهداف ممكنة التحقيق ، لا تلقى مقاومة من المجتمع ، لأنها منبثقة عنه ، ومعبّرة عما يصبو إليه من تطلعات .

هذه الفلسفة سوف تلقى الترحيب من الظهير المجتمعى حين تجيب عن تساؤلات المجتمع المستقبلية ، وحين تجيب عن بعض التساؤلات المتعلقة بهواجسه ومخاوفه من مؤثرات العولمة وإشكالياتها المتواترة ، ومن ثم تكون فلسفة التربية المرجوة عامل تجديد فعلى لكل من التربية والمجتمع .

وفلسفة التربية إذ تنبثق من واقع المسألة التربوية ، فلكى تعيننا على فهمه ومواجهة مشكلاته ، لكن الهدف الأبعد من هذه العملية هو استشراق المستقبل وتلمُس مساراته «المتوقعة» انطلاقاً من معطياته « الواقعة » فهى إذاً عملية مستقبلية حيث تسعى إلى رسم صورة لما ينبغى أن يكون على مختلف جبهات العمل التربوى .

# : ولكن ... لماذا ينبغى أن تكون فلسفة التربية المرجوة ... مستقبلية ؟


تواجه التربية العربية ـ فى عصرنا الحالى ـ موقفاً صعباً للغاية ، فقد أصبح لزاماً عليها أن تجدد رؤيتها الفلسفية لمواجهة المتغير المعلوماتى فى غياب فلسفة اجتماعية عربية ، وقصور الوعى العام فى إدراك الجوانب التربوية العديدة لظاهرة المعلومات وعولمتها . ( نبيل على : 2001 ) .

ويؤكد « خلدون النقيب » على هذا البعد الغائب فى التربية العربية ، ومن ثم معاودة الإمساك به وامتلاكه ، حيث يقول : « إننا لا نملك وعياً تربوياً فى الوطن العربى لأننا نفتقد الفلسفة التربوية التى توجه عملية التعليم . ( خلدون النقيب ، 1993 ) . وهذا يعنى ، أن المجتمعات العربية تشهد اليوم ضغط حاجة مضاعفة إلى بناء فلسفة تربوية تضع على رأس اهتماماتها الخروج بالإنسان العربى مـن « فـرد » فـى القبيلـة ، إلـى « عضو » فى المجتـمع المدنى ، وبالعلاقات الاجتماعيـة مـن علاقـات « قبلية » إلى علاقات « مدنيـة » تتجاوز الأطُـر العشائـرية والطائفيـة . ( الأمين ، 1998 ) .

وإذا كان الغرب المتقدم اليوم ينخرط فى مرحلة « ما بعد الحداثة » ، فإن هذه التجربة الحضارية النقدية التى يدخلها الغرب يمكنها أن تسدد خطانا وأن تساعدنا فى اكتشاف سلبيات التجربة الغربية وتأكيد إيجابياتها ، وهذا يعنى فى نظر « وطفه » أن حداثتنا التربوية يمكنها أن تحقِّق فى آن واحد متطلبات الحداثة الأولى ، وأن تجنبنا تحديات الحداثة الثانية التى تتجلى فى تحديات عصر العولمة .

ومطالبتنا بأن تكون فلسفة التربية المنشودة مستقبلية التوجّه والغايات ، لأن هذا التوجه المستقبلى هو سبيلنا فى تجاوز واقعنا التربوى المأزوم وتحريره من قيوده الثقافية وتقاليده الباليـة .

فلكى نربى أبناءنا تربية تمكنهم من أن يكونوا الصنّاع الحقيقيين لعالم أفضل ، فإن علينا حينئذ أن نعلّمهم أن يعملوا من أجل الغد ، وأن يدركوا أن هذا الغد رهن بالجهود المبذولة اليوم ، وبمراجعة وتصحيح أخطاء الواقع .

ولمعاودة الإجابة عن السؤال الذى صُدِّر به هذا المحور حول مستقبلية فلسفة التربية ، يمكن معاودة التأكيد ـ بقدر نسبى من التفصيل ـ أن التربية الموجهة نحو المستقبل Future Oriented Education تأخذ أهمية خاصة فى هذا العصر لجملة أسباب أهمها :

1 : إن الاهتمام بالمستقبل أضحى هدفاً عاماً مشتركاً لجميع العلوم والأنشطة فى مختلف الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، ومن غير المتصور أن تبقى التربية بعيدة عن هذا الاهتمام وخارج هذا الهدف ، وهى التى ـ بحكم طبيعتها وغاياتها ـ تتجه نحو المستقبل أكثر مما تتمركز حول الحاضر .
2 : إن الاهتمام بالمستقبل فى العمل التربوى يحرر الفكر التربوى من السير فى مسار تقليدى جامد ، ويفتـح أمامه أكثر من طريق واحد فى تجاوز الحاضر وأكثر من بديل ( سيناريو ) للنمو المستقبلى مع الاعتماد على القراءة الدقيقة للواقع فى أىّ تشوف أو استشراف للمستقبل .
3 : إن تحديد الخيارات الفلسفية للتربية لابد أن تعتمد على نتائج الدراسات المستقبلية للمفاضلة بين هذه الخيارات ، فلم يعد مقبولاً الآن الحديث عن تنبؤ أو شكل واحد للمستقبل ، بل شاع استخـدام مفاهيـم « المستقبـلات والمشاهـد البديـلـة » ، و « استشراف المستقبل » ، و « التحليل المستقبلى » بدلاً من المفاهيم التى كانت تعنى بصورة واحدة للمستقبل . معنى ذلك ، أن الاهتمام بالمستقبل وتضمينه فى فلسفة التربية يُسهم فى توسيع دائرة الخيارات التربوية ومرونتها .
4 : إن الكائن الإنسانى ( الطالب ) ـ وهو المستهدف من التـربية ـ كائن « ذو قصد » يشدّه التطلع إلى أمامه ، ويغريه أن يسعى إلى غايات يُسهم فى تحقيقها . ولذلك ، فعندما تبدو أمامه مشروعات مستقبلية حضارية تستجيب لحاجاته فعلاً ، وتعبّر عن تطلعاته ، فإن الجميع يلتف حولها ويدعمها ، ويشارك فى إنجازها .
5 : إن تأكيد المستقبلية فى العمل التربوى ، يطرح البديل الحقيقى والفعّال عن الغايات المفروضة سلفاً التى تأخذ بها التربية غالباً وتثبتها فى وظيفتها المحافظـة Conservative ، ولا سيـما تلك التى تأخذ بفلسفة « الماهية » فالغايات التى تشتق من صورة المستقبل أو صوره المفترضة والمتوقعة وهى غايات تتحرك وتتجدد بناء على مسيرتنا نحو المستقبل التى هى فى حالة حركة وصيروره دوماً .
6 : إن الأخذ بالنظرة المستقبلية فى فلسفة التربية تُخفّف من حدّة ذلك التناقض الشائع بين ما هو « فردى » وما هو « اجتماعى » فى العمل التربوى وفى الشأن الاجتماعى عموماً ، فالنظرة المستقبلية تساعد الفرد فى أن يدرك أن المشروعات المستقبلية التى يتطلع للإسهام فى إنجازها هى عمل جماعى مشترك يتطلب منه أن يعمل بشكل فاعل مع الآخرين ومن خلالهم .
7: والنظرة المستقبلية لفلسفة التربية ـ وخاصة فى هذا العصر ـ هى التى تطرح مسألة « الغايات » وما يلحق بها من مسألة « القيم » طرحاً عميـقاً وحـاداً ، ففـى عصـر تسوده سطوة الماديـة علـى حسـاب « الإنسانيات » وأخلاقياتها التى تنمى لدى الإنسان « شواجن القلب » و « بواعث الوجدان » ، تبدو أهمية التسلّح بمنظومات قيمية لها صيرورة وصلاحية مستقبلية حتى لا تفتك الصراعات الناشئة عن توترات العولمة بكل ما هو إنسانى وأخلاقى .
8: وأخيراً ، فإن النظرة المستقبلية لفلسفة التربية تجعل التربية نفسها ملامسة لذلك الاهتمام المتصاعد ـ منذ منتصف القرن الماضى ـ بالدراسات المستقبلية ، وما أدى إليه من امتلاك بعض طرائق التنبؤ والتحَسُّب Prospective حتى يمكننا تلمُّس صور المستقبل وبدائله لنعمل لها حساباتنا التربوية على مختلف أصعدة العمل التربوى تخطيطاً وتنفيذاً وتقويماً ومراجعة وتجديد.

مجمل القول فى هذا السيـاق ، أن فلسفـة التربيـة المرجوة ينبغى أن تكون « واقعية » و « مستقبلية » فى آن معاً . تكون واقعية حين تنطلق من السياق الاجتماعى القائم بمختلف موروثاته وأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية ومشكلاته الملحّة . وتكون مستقبلية حين تتخذ من هذا التحليل منطلقاً لاستشراف مستقبلها وصـورة النـظام التربـوى المرجـو فـى ضوء البعديـن ( الواقـع ) و ( المتوقع ) .

والفلسفة التربوية حين تمتلك هاتين الخاصيتين ، يصبح بمقدورها دفع العمل التربوى كله ـ أهدافاً ، ومناهج ، وتنظيمات ، وطرائق ، وإدارة وتقنيات ... إلخ ـ لمواجهة تحديات العولمة والتفاعل معها برؤية ومنهجية متبصرة ، وليس باجتهادات شخصية ، أو باستجابات سلبية أو بتحجر فكرى وتنظيمى .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق